* والدي العزيز!
سأفشي لك سراً لم أسر به لأمي، وسأفضي لك بأمر لم تعلمه أختي، ليس لشيء إلا لأنه يخصني أنا وأنت فقط، وأخشى على نفسي وعقلي وقلبي من كتمانه، فتحمّل ثقيل همي، وإصبر على ما سألقيه عليك فأنت ولي أمري.
* والدي العزيز!
يقولون عني أني أشبهك في صفاتك، وخصوصاً حياؤك، وهذا ما زاد من مأساتي، فصفة الحياء فطرة كل أنثى، ولكني أزيد عليهن لكوني بنت رجل حيي، فزادني حياؤك حياءً.
لقد مضت سنة على تركي للدراسة بناء على رغبتي، ولكني لم أخبرك لماذا تركتها، وأظنك تحسب تركي لها مجاراة لمشاعرك ورغبتك التي لم تخبرني بها، ولكن هناك سبب أكبر من ذلك، وهو السر الذي دفنته ولم يطلع عليه أحد، وها أنا أقدمه بين يديك مكتوباً، فلساني سينعقد عند الجلوس بين يديك، وجسدي سيذوب حياءً وأنا أبوح لك به.
* والدي العزيز!
أنت تعلم حال مدارسنا وكيف إختلط الطلاب بالطالبات، وكيف إنقلب التعليم رأساً على عقب قبل مولدي بسنوات!
والدي! هل تعلم أن مجرد نظر الفتيان إليّ يجعلني أتصبب عرقاً، فكيف لو شعرت بما أشعر به وهم يتهامسون عند مروري، وربما تجرأ بعضهم على محادثتي مباشرة، أما ما أراه من تجرئهم على بعض من تساهلت بالحجاب من زميلاتي، فيكاد يقتلني في اليوم ألف مرة ومرة.
* والدي العزيز!
المدرسة أصبحت سوقاً يعرض فيه اللحم الرخيص، وصارت موطناً لتفجر الرغبة والشهوة، ولك أن تسأل بعد ذلك عن حال العملية التعليمية كما يسمونها!
والدي! أرى مسلسلاً يتكرر كل يوم، وقد كنت أحد حلقاته يوماً، ففي بداية المسلسل ترى فتاة بحجابها متجنبة الشباب، ثم تهتم بتزيينه تلبيةَ لنظرات إعجابهم، وهمسات ثنائهم، ثم ترخيه شيئاً فشيئاً، لتقلد معلمتنا -سيئة الذكر- في الظاهر، ولتلبي طلبات الشباب في الحقيقة، ولتتجنب تعليقاتهم السخيفة التي تجعلني أطأطئ رأسي حياءً، وربما ذلاً ومهانة حينما توجه لنا معاشر المحجبات، تلك الفئة التي صار عددهن يقل كل يوم.
ومن حلقات ذلك المسلسل التعيس، تساهل بعض الطالبات في الحديث مع الطلاب، وإنتشار قصص الغرام بين فلان وفلانة، وإشاعة أن سبب المشاجرة بين فلان وفلان كان سببها علاقة أحدهما بصويحبة الآخر! وفي كل يوم تروج العديد من الإشاعات، والتي نحسبها -مع الأسف- مجرد إشاعات، ولكن ظننا يخيب كل مرة نكذب فيها تلك الأخبار، فيثبت لنا المسلسل كل يوم أنه مسلسل واقعي، نرى بعض حقائقه، ونسمع البعض الآخر بين همس الطلاب وإعلانهم.
والدي! هل تعلم أن الفتاة التي تحافظ على علاقتها بريئة، تعتبر فتاة معتدلة، تفاخر بعلاقتها، وتنتقص من لا تجاريها، ولكن لا تسألني ما حدود تلك البراءة!
* والدي العزيز!
لا يمكن لأي رجل أن يتخيل حال الفتاة التي لم ينعم الله عليها بجمال أو حسن قوام، وهي تسمع الثناء والغزل لبعض من منحهن الله الجمال والرشاقة، وتسمع همز الشباب ولمزهم لها، فما ذنبنا ونحن نتعذب كل يوم بغزل من يتغزل وسخرية من يسخر.
* والدي العزيز!
لقد كثرت الأمراض النفسية بين الطالبات، فلوعة الفراق، وسياط الشوق، وألم السخرية والنبز، سحق ما تبقى من نفوس البنات، ولك أن تسأل بعد ذلك عن التحصيل العلمي والمعرفي!
* والدي العزيز!
لن أحدثك عن تتيم الفتيات بالمدرسين -والذين أدخلوا إلى المدارس المختلطة لعجز المعلمات عن السيطرة على الطلاب، فجعلوهم حلاً غبياً لمشكلة صنعوها بأيديهم- فقد تجاوز الشق الرقعة، وزكمت الأنوف تلك الفضائح المخزية.
* والدي العزيز!
لن أحدثك عن نظرات المعلمين للطالبات، ولن أحدثك عن تزينهن لهم، ولن أحدثك عن بعض ما يقال عن سلسال فلانة وقلادة الأخرى، فمما يقال: أنها هدية من الأستاذ المربي، ولكن هل كان لهذه الهدية مقابل أم لا؟! يكاد رأسي ينفجر حينما ينفتح باب الخيال لتصور تلك الأحداث التي تغيب عن عيني، ويحاول ذهني إكمال المشهد!
* والدي العزيز!
لقد طلبت منك وأنا في سني المتوسطة الأولى أن أبقى في البيت، ولكنك لم تلب طلبي إلا في آخر هذه المرحلة، والدي هذا ما رأيته وعايشته في سنوات قلائل، وما يقال عن المرحلة الثانوية أدهى وأمر.
* والدي العزيز!
لقد إرتحت من ذلك كله بعد بقائي في المنزل، وما أكثر من بقين فيه هذه الأيام، ولكن هماً آخر بدأ يؤرقني، ألا وهو مصير مستقبلي التعليمي، فقد كنت أسمى ببنت أينشتاين كما تحب أن تناديني مدرسة الرياضيات، أما معلمة الأدب فتناديني بأديبة الزمان، وبعد هذا الجهد أبقى حبيسة المنزل، وتبقى المدرسة لمن لم يهمهم التعلم وطلب المعرفة.
* والدي العزيز!
أنا أعلم أن الحال في مدارسنا لم يكن كذلك، وهذا ما تحدثني به أختاي، فما الذي جرى وكيف تدهورت الأمور.. أبي لو لم تكن ممن عاصر الإفساد لعذرتك، ولكن سؤالي الذي يجعلني أكره كل من جعل مسلسل الإفساد يصل إلي:
ما الذي فعلتموه ليقف هذا التدهور؟ وهل كنتم سذجاً لدرجة أنكم لم تتوقعوا هذه النتائج؟ مع أنه مسلسل متكرر في أكثر البلاد العربية من حولنا! أم أنكم تغابيتم عن ذلك جبناً وذلاً؟!
ألم يكن فيكم رجل رشيد، وذي رأي سديد، ليضحي بالنفس والنفيس؟ هل كانت أعراضكم بهذا الرخص؟ هل هذا قدرنا عندكم؟
* والدي العزيز!
لقد درست تاريخ الثورات العربية، فعلمت أن من أسبابها غلاء الأسعار، وصفعة خضار! هل كانت أعراضكم أرخص من ذلك، وهل كانت بناتكم أقل من أن تهزوا الدنيا من أجل عفافهن؟
والدي! ألم يقل نبينا صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون عرضه فهو شهيد»؟
والدي! ألم يطرد النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع من المدينة لأجل عرض مسلمة؟
والدي! ألم يجيش المعتصم الجيوش، ويخرب عمورية تلبية لنداء عفيفة صفعت؟
والدي! أخبر من حولك ومن بجوارك واصرخ بأعلى صوتك، ما يحدث في ردهات المدارس، وبين جنباتها أعظم من ذلك بكثير.
والدي! والله إني لأعلم أن التصدي لمثل هذا المخطط قبل مولدي لا يحتاج إلى دماء وثورات وحروب، ولكنه كان يحتاج إلى صدع بالحق، وثبات عليه، ودعم للشرفاء المحتسبين، وبيان خطر هذا المشروع لولي الأمر.
أما الآن وبعد أن ألف الناس رخص العرض، وهانت عليهم نساؤهم، حتى صار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، فإزالة ما تبقى من آثار هذا المشروع، سيكلفكم الكثير، ولن يغسل هذا الدرن إلا دماء الشهداء.
* والدي العزيز!
في ختام رسالتي أعتذر عن عدم إفشائي لذلك السر الذي كتمته، لظني أنك عرفته، وما تبقى من حيائي يمنعني من مجرد التفكير بإفشائه.
إبنتك التي لم تولد بعد!!
الكاتب: سعد بن دبيجان الشمري.
المصدر: موقع المحتسب.